«سواحل عسير»… موانئ عتيقة وحكايات صيادين بين الطبيعة والتاريخ
ويحتضن الميناء التاريخي العريق على ساحل عسير، الكثير من الحكايات الفريدة لصيادي السمك الذين ورثوا المهنة عن آبائهم، بعد أن قضى بعضهم عقوداً من الزمن في البحر، وزخرت حياتهم بقصص ومواقف وارتسمت في ذاكرتهم آثار علاقة أثيرة مع القوارب ووجوه الرزق، وفضاء طبيعي بديع يضم الماء والجبل والساحل. لم يختلف الكثير اليوم، لا يزال بعض الشباب يزاول المهنة التي ورثها عن والده، وهو ينشط كل صباح للبحث عن مظان الصيد الوفير في عرض الماء، مضافاً إليها نشاطات جديدة مثل تنظيم رحلات وجولات بحرية في عرض البحر، حيث تنتشر الجزر البكر التي لم تصل إليها يد ولم تطأها قدم، وهي مكسوة بالحياة على طبيعتها، تسافر إليها ومنها أسراب الطيور وتنبت على ثراها الشجيرات الغضّة، ويحيط بها ماء نقي صافٍ يلامس في كل مدّ ذرات تراب الجزيرة البديعة.
يقول حسين اليحياوي إن الكثير من وجوه المجتمع المحلي لميناء القحمة، تركوا لأبنائهم من بعدهم هذا الإرث العريق، ويضيف: «العم علي الشاعري الذي يقترب عمره الآن من 100 عام، كان أشهر الصيادين، عاصر حقباً تاريخية متعددة، وشهد على نهضة هذا الميناء التاريخي الذي خسر الكثير من حيويته وبقيت أطلاله شاهدة على تاريخه، وكان آخر ما بقي من تلك المرحلة هم الأبناء ممن ورث مهنة والده وواصل مسيره اليومي إلى البحر».
ويتابع أن الصياد كان بمثابة الحكواتي الذي «نفرح بالجلوس إليه والحديث معه، وكانت تسفر كل رحلة له عن قصة أو موقف، يتجلى فيها جميل صنع الله في المخلوقات البحرية، أو لطف الله في المواقف والمشاق التي تكاد في بعض الأحيان تودي بحياة الصياد، قبل أن يحيط به قدر الله ويجوز بقاربه الصغير من عوادي الأمواج العاتية».
يتذكر اليحياوي الأهازيج التي كان يرددها الصيادون في عرض البحر، وعنها يقول: «للصيد طقوس، والبحر أفضل معلم يصنع في نفس الإنسان طباعاً وقيماً وعادات فريدة، ويتصل كل صياد بعلاقة خاصة مع البحر وطبيعته وكائناته. بعض الصيادين يخص كل نوع سمك بزامل خاص، وكأنه يناجيه ويتخاطب معه، ويضمن رزقه ومصدر عيشه، وخير ما يعود به الصياد هو غلة مليئة بخيرات البحر ورزقه».
140 كيلومتراً من الطبيعة الأخّاذة
وعلى ساحل البحر، تمتد سواحل عسير التي تشمل محافظة البرك ومراكز سعيدة الصوالحة والقحمة والحريضة، بطول يتجاوز 140 كيلومتراً، وتستقبل مرتاديها بطبيعة أخّاذة ونباتات متنوعة مثل الشورى (المانجروف) والنخيل والدوم. وبينها شاطئ القحمة، الذي يعد واحداً من أكثر شواطئ عسير هدوءاً، ويمتاز برماله البيضاء التي تبزغ منها النباتات والشجيرات، وهو مقصد سياحي للراغبين في تأمل تفاصيل الطبيعة والجزر السياحية والمواقع الأثرية المسجلة في قائمة التراث الوطني. ويعد الشاطئ الذي يقع في أقدم المدن التاريخية في عسير جنوب السعودية، بموقعه الاستراتيجي المهم على البحر الأحمر، أول موانئ المنطقة الجنوبية.
ولا تزال آثار المدينة التاريخية في ميناء القحمة، باقية وشاهدة على الحركة الاقتصادية والاجتماعية التي كان يشهدها المكان تاريخياً؛ بيوت من الحجر والنخل تحاول التماسك رغم مرور الوقت، ومخازن لحفظ البضائع التي تفد من البحر على متن السفن القادمة من مختلف شواطئ العالم، أو المنتجات المحلية التي كانت تصل عبر القوافل من مختلف المناطق الداخلية لعسير على ظهور الجمال، استعداداً لنقلها إلى الخارج.
وكان أول موانئ المنطقة الجنوبية محطة مهمة لتبادل البضائع الواردة والصادرة بواسطة السفن والقوافل التجارية، وكان ميناء القحمة بموقعه الاستراتيجي في منتصف البحر الأحمر وعلى ملتقى عدد من الخطوط التجارية البحرية، مركزاً حيوياً لم يفقد أهميته مع بداية العهد السعودي؛ إذ وجّه الملك عبد العزيز بتنظيم الموانئ وتنسيق عملها، وشملت جهود الإصلاح والتطوير ميناء القحمة التاريخي والمباني الأثرية التابعة له، مثل مبنى إدارة الميناء والجمارك وفرع المالية والجوازات وخفر السواحل والشؤون البحرية والمراكز الأمنية الأخرى. وفي بداية العهد السعودي، زار الملك سعود بن عبد العزيز الميناء قادماً من جدة خلال رحلته البحرية التفقدية، ونزل في القحمة وزار عدداً من المقرات الحكومية، والتقى بالمواطنين، وأمر ببناء مسجد جامع في المدينة على نفقته الخاصة، وما زال المسجد يحمل اسمه حتى اليوم.